جدل مشروع 1619- العبودية وتاريخ أمريكا، صراع الهوية والانقسام الثقافي.

تحتفي الولايات المتحدة في شهر فبراير/شباط بما يعرف بـ "شهر تاريخ السود"، وهو تقليد سنوي بدأ عام 1926 للاعتراف بالإسهامات الجليلة التي قدمها الأمريكيون من أصول أفريقية في مختلف مناحي الحياة في أميركا. وقد تم اختيار هذا الشهر تحديدًا تخليدًا لذكرى ميلاد كل من الرئيس أبراهام لينكولن، الذي أصدر إعلان تحرير العبيد، والمناضل الشهير فريدريك دوغلاس، الذي كرس حياته لمكافحة نظام العبودية البغيض. يمثل هذا الشهر فرصة متجددة لإعادة فحص ومناقشة الحقبة المظلمة للعبودية في التاريخ الأميركي، وهو موضوع أثار جدلاً واسعًا وتصاعدًا ملحوظًا خلال السنوات القليلة الماضية.
شهدت السنوات الأخيرة إنتاج عدد كبير من الأفلام الوثائقية والبرامج التلفزيونية والأعمال الأدبية التي تتناول تأثير العبودية العميق على مسار التاريخ الأميركي. وقد أثار هذا الاهتمام المتزايد شرارة جبهة جديدة في "الحروب الثقافية" المحتدمة في أميركا. في المقابل، رفض الجمهوريون، في غالبيتهم، هذا التوجه، واعتبرت شبكة فوكس نيوز الإخبارية هذا الطرح بمثابة "هجوم مباشر على أميركا وقيمها الأساسية".
منذ ثلاث سنوات، بادرت صحيفة نيويورك تايمز المرموقة بتسليط الضوء على الذكرى السنوية الـ 400 لبداية ممارسة العبودية على الأراضي الأميركية، وطرحت الصحيفة فكرة اعتبار عام 1619 "العام الذي ولدت فيه أمتنا".
ففي شهر أغسطس/آب من عام 1619، قبل ما يزيد على أربعة قرون، تم اختطاف نحو 20 رجلاً من أنغولا الحالية، وتم اقتيادهم مكبلين بالسلاسل ليتم بيعهم قسرًا إلى المستعمرين البريطانيين في منطقة جيمس تاون بولاية فرجينيا. وأكدت الصحيفة الأميركية الرائدة أن تاريخ بدء العمل بنظام العبودية في المستعمرات البريطانية يجب أن يُعتبر علامة فارقة في تاريخ الولايات المتحدة، تمامًا مثل تاريخ التوقيع على إعلان الاستقلال عام 1776.
وفي سلسلة من المقالات المثيرة للجدل، زعمت الكاتبة نيكول هانا جونز أن الدولة الأميركية الناشئة كانت أقرب إلى "حكومة العبيد" (Slavocracy) منها إلى "ديمقراطية" حقيقية، وأن المثل العليا التي قامت عليها الدولة الأميركية، كالمساواة والحرية، لم تكن سوى "أكذوبة كبرى". وقد حازت الكاتبة المذكورة على جائزة بوليتزر المرموقة عن هذه المقالات التي أثارت عاصفة من الجدل.
وقد انبثقت عن ذلك ما عُرف بمشروع 1619، وهو مبادرة واسعة النطاق تهدف إلى توثيق وتحليل التأثيرات العميقة والدائمة للعبودية على مختلف جوانب الحياة الأميركية المعاصرة، سواء في السياسة، أو نظام العدالة الجنائية، أو الرعاية الصحية، أو الاقتصاد وتوزيع الثروة.
وقد تم إنتاج العديد من الأفلام الوثائقية والبرامج التلفزيونية، بالإضافة إلى نشر الكتب التي تم توزيع مئات الآلاف من النسخ منها على المكتبات العامة والمدارس في جميع أنحاء البلاد. وقد أدى ذلك إلى نشوء جبهة جديدة في إطار ما بات يعرف بـ "الحرب الثقافية" في أميركا. في المقابل، رفض الجمهوريون في غالبيتهم هذا الطرح، واعتبرته شبكة فوكس نيوز الإخبارية بمثابة "اعتداء سافر على أميركا ذاتها".
وزعمت صحيفة نيويورك تايمز أن التقدم الظاهري نحو تحقيق المساواة العرقية بين البيض والسود في أميركا ليس إلا وهمًا، وأن جذور العنصرية متأصلة بعمق في "الحمض النووي" (DNA) لهذا البلد. وكتبت هانا جونز أن "نظام الطبقات العرقية" الأميركي قد تم ترسيخه قبل تأسيس البلاد، وأن "أحد الأسباب الرئيسية" التي دفعت قادة المستعمرات الأولى في شمال أميركا إلى إعلان الاستقلال عن بريطانيا هو "رغبتهم في حماية نظام العبودية والحفاظ عليه".
وأشارت كذلك إلى أن الآباء المؤسسين للولايات المتحدة، مثل توماس جيفرسون وجورج واشنطن وجون آدمز وغيرهم، كانوا من كبار ملاك العبيد، وأن الانفصال عن الإمبراطورية البريطانية قد مكّنهم من الحفاظ على "الأرباح الطائلة التي كانت تدرها عبودية الأفارقة السود".
وخلصت هانا جونز إلى أن الأميركيين السود كانوا وحدهم، إلى حد كبير، من يناضلون من أجل الحرية والمساواة، وهو ما يجعلهم، في رأيها، "الآباء المؤسسين الحقيقيين لهذه الأمة". ويؤكد مشروع 1619 أن العنصرية المنهجية، التي هي إرث العبودية البغيض، لا تزال متجذرة بعمق في جميع المؤسسات الأميركية، ولا تزال تشكل عاملاً حاسماً ومؤثراً في حياة الأميركيين السود.
أشعلت هذه الآراء نقاشًا محتدمًا لم يهدأ بعد
واجهت رؤية مشروع 1619 انتقادات لاذعة من جانب العديد من الأكاديميين والمؤرخين، الذين اعترضوا على تجاهل قضية العبودية في وثيقة الدستور الأميركي وإعلان الاستقلال. ورفض المحافظون بشكل قاطع فرضية أن العبودية والقمع العنصري يجب أن يكونا موضوعين أساسيين في تاريخ الولايات المتحدة.
واعتبر بريت ستيفنز، الكاتب المحافظ في صحيفة نيويورك تايمز (الجهة التي أطلقت المبادرة)، أن المشروع يعاني من التبسيط المخل، وأنه فشل في تقديم أدلة قوية تدعم ادعاءاته المثيرة للجدل. وأضاف أنه على الرغم من أن الآباء المؤسسين قد ارتكبوا أخطاء، فإن ما جعل هذا البلد فريدًا واستثنائيًا لم يكن العبودية، بل المبدأ التأسيسي الثوري الأميركي القائل بأن "جميع الناس قد خلقوا متساوين"، بالإضافة إلى أكثر من 250 عامًا من النضال الدؤوب لتحقيق هذه المثل العليا.
وشن الرئيس السابق دونالد ترامب هجومًا شرسًا على مشروع 1619، مدعيًا أنه يهدف إلى "تلقين أطفالنا كراهية أميركا".
وفي وقت لاحق، تراجعت صحيفة نيويورك تايمز بعض الشيء، وأقرت بأن الثورة لم تكن ضد بريطانيا بهدف حماية نظام العبودية فحسب، بل إن العديد من المستعمرين قد ثاروا لأسباب أخرى تتعلق بالحرية وغيرها من القضايا. كما تراجعت الكاتبة هانا جونز، وعدلت عن رأيها السابق، وقالت إن "عام 1619 هو نقطة البداية الحقيقية لتاريخ أميركا". ومع ذلك، لم تتنصل صحيفة نيويورك تايمز من مبادرتها، وأكدت أن النقاش المتعمق حول التأثير الدائم للعبودية والعنصرية يمثل "انتصارًا صحفيًا غير الطريقة التي يفهم بها ملايين الأميركيين بلدهم"، وأن "المراجعة والتوضيح يمثلان جزءًا أساسيًا من عملية البحث التاريخي".
لقد نجح مشروع 1619 في إلقاء الضوء على تاريخ وإرث العبودية في أميركا، وإبراز الكيفية التي يمكن من خلالها فهم العديد من الظواهر المعاصرة المرتبطة بالأميركيين من أصول أفريقية. وقد ازدادت أهمية المشروع مع تأكيد 60% من المعلمين أن كتبهم المدرسية لا تغطي موضوع العبودية بشكل كاف، وفي الوقت الذي يجهل فيه غالبية طلاب المدارس الثانوية أن العبودية كانت السبب الرئيسي للحرب الأهلية.
وفي نهاية المطاف، لم يسعَ مشروع 1619 إلى استبدال تاريخ أميركا، بل كان محاولة بناءة لملء فراغ كبير لم يتناوله الكثيرون من قبل.
بيد أن القوى المحافظة في أميركا لا تنظر إلى الأمر بهذه الطريقة، فقد قدمت 35 ولاية مشاريع قوانين، أو اتخذت خطوات أخرى لتقييد تدريس التاريخ اعتمادًا على منهج "النظرية النقدية" (Critical Theory)، وهو النهج الذي يركز على إرث العنصرية المنهجية لفهم تاريخ أميركا، وخاصة في بداياته.